للمرة الأولى: باحثون ينجحون في حقن العين البشرية بالرؤية الليلية!
طالعنا من قبل تلك الأخبار عن ابتكار ما يمكننا تسميته نظارة شمسية “معكوسة” تمكنك من الرؤية في الظلام الدامس بعدسات ثني ضوء نانوية light-bending nano crystal أرق وأرفع بخمسمائة مرة من شعر الإنسان. كان ذلك ابتكارًا ثوريًا بالطبع مقارنة بمناظير الرؤية الليلة الضخمة الثقيلة والمرهقة لمرتديها والتي لا تعمل في الضوء بشكل طبيعي فتغشي عيني مستخدمها؛ لذا كان الاحتفاء بها كبيرًا في الواقع.
لكن هذا لم يوقف العلماء من العمل على المستوى الأعلى والقادم من تقنيات الرؤية الليلة؛ وهنا لم يعملوا على جهاز أو أدارة رؤية مساعدة ما وإنما استهدفوا تعديل عضو الرؤية الحيوي في الإنسان مباشرة: العين! والنتيجة أن نجح مجموعة من الباحثين في مجال الكيمياء الحيوية بالولايات المتحدة الأمريكية في ابتكار طريقة منحت أحد المتطوعين القدرة على الرؤية عبر الظلام الكلي الدامس لمسافة تزيد عن 50 مترًا!
مفتاح التقنية الأكثر من ثورية هنا هي مادة شديدة الحساسية للضوء تدعى كلورين إ6 (Chlorin e6 (Ce6، والتي يتم استخلاصها من المخلوقات البحرية. هذه المادة تحديدًا أثبتت فعاليتها من قبل في علاج الغشى الليلي وكذلك تحسين حالة المصابين بتشوش الرؤية؛ ولهذا قرر فريق علمي مستقل في كاليفورنيا ضمن حركة “العلم للجماهير Science for the Masses” أن يبحثوا قدرات هذه المادة في منح البشر العاديين قدرات الرؤية الليلة وذلك بحقنها مباشرة في العين!
الفكرة هنا قديمة نوعًا وتعود إلى براءة اختراع مسجلة منذ عام 2012، حيث تدعي أنه بحقن مزيج من كلورين إ6، والإنسولين ومحلول ملحي saline في العين البشرية، فإن شبكية العين ستمتصها وتتشبع بها لتصبح أقدر وأكفأ في في استقبال الضوء مهما كان خافتًا. كذلك، تشير تلك البراءة المسجلة بأنه يمكن استبدال الإنسولين بمادة ثنائي ميثيل سلفوكسيد (dimethyl sulfoxide (DMSO، لكن فريق “العلم للجماهير” فكر في استخدام كلا المركبين معًا في الوقت ذاته، الإنسولين ومادة ثنائي ميثيل سلفوكسيد، لزيادة نفاذية Permeability المعلّق الذي يتم حقنه.
هناك عدد كافي من الأبحاث المتعلقة بتجريب مركب كلورين إ6 على الفئران وغيرها من الحيوانات لتحسين الرؤية الليلية، بالإضافة إلى استخدامه منذ ستينيات القرن الماضي كعلاج لأنواع مختلفة من مرض السرطان.
هكذا كانت الخطوة التالية هي تجربة المركب الواعد على البشر، وقد تطوع أحد الباحثين بنفسه، ويدعى جابريال ليسينا Gabriel Licina والذي ترونه في الصورة بالأعلى، بأن يكون خنزير غينيا بشري لتوثيق نتائج تلك التجربة بشكل تفصيلي ممل!
مع البدء في التجربة، استلقت عينة الاختبار (جابريال) على ظهرها، وتم غمر العين بالمحلول الملحي سالين لإزالة أية شوائب أو عوالق ملوثة في العين. تم تثبيت الجفون بملاقيط طبية لضمان عدم رمش العين والذي قد يؤدي لإخراج المعلق التجريبي من العينين قبل امتصاصه بالكامل. عقب ذلك، تم حقن مركب كلورين إ6 سطحيًا إلى كيس الملتحمة conjunctival sac عبر ماصة مخبرية على ثلاث جرعات، تحوي كل منها 50 ميكرولتر لكل عين.عقب الحقن السطحي للمعلق، تم الضغط لبعض الوقت على زاوية العين أو “الموق Canthus” لمنع تسرب السائل عبر العينين إلى المجرى الأنفي. لوحظ اختفاء العرض الجانبي المتمثل في اصطباغ العين باللون الأسود في غضون ثواني قليلة من الحقن.
وكما ذكرت آنفًا، فالعملية برمتها موثقة على موقع الفريق على الانترنت بشكل تفصيلي ممل، لكن ما يهمنا هنا هو النتائج. وللوقوف عليها بشكل دقيق، تم إجراء التجربة في بيئة مظلمة برفقة 4 مراقبين؛ أما جابريال نفسه فقد تم تركيب عدسة معتمة على عينيه مع ارتداء نظارة شمسية سوداء في فترات الراحة في الضوء العادي بين مراحل التجربة لضمانعدم تعرض الشبكية لأي ضوء مرتفع قد يؤثر على دقة النتائج.
استغرض الأمر بعض الوقت كي يبدأ تأثير كلورين إ6 في العمل؛ فبعد ساعة تقريبًا، بدأ جابريال في تبين الموجودات في الظلام الدامس على بعد 10 أمتار. لكن بعدها بدأت مسافة الرؤية عبر الظلام تتزايد إلى 20 و30 وفي النهاية بلغت حدها 50 مترًا كاملًا عبر الظلام الدامس، مع قدرة جابريال على تمييز وتحديد أشياء وأجسام موضوعة ومسجلة ضمن التجربة. ونحن هنا لا نتحدث عن أشياء كبيرة الحجم يسهل رؤيتها حتى في الإضاءة الخافتة، وإنما هي أجسام أصغر في الحجم من كف اليد مع قدرة جابريال حتى على تمييز أرقام وكلمات مكتوبة كذلك!
ولمزيد من التنويع لاختبار دقة تلك النتائج، تم اصطحاب جابريال والأربعة مرافقين إلى الغابات في ليلة مظلمة غير مقمرة بينما يضع الأول عدسته المعتمة كما هي العادة. بعدها تم تفريقهم وطُلب منهم محاولة العثور على أشخاص مختفين في أماكن متعددة من مسافة 50 مترًا بوسمهم بضوء ليزر محمول في حوزة كل منهم. وقد جاءت النتائج مذهلة ومثيرة للغاية حقًا! فحسب النتائج المسجلة بالفيديو، نجح جابريال مع مركب كلورين إ6 في تمييز الأهداف الموضوعة بنسبة دقة لم تنخفض في جميع المرات عن 100%، بينما عاني الأربعة مراقبين في تحديد تلك الأهداف ولم تتعدى نسبة نجاح أي منهم في وسم الأهداف عن 33%!
مع هذا، لابد من ذكر أن لمركب كلورين إ6 عرض جانبي مزعج، وهو عدم قدرة الشخص عينة الاختبار على الرؤية مباشرة في الضوء العادي دون استخدام نظارة شمسية تحمي الشبكية من الاحتراق لحساسيتها المفرطة للضوء التي اكتسبتها من كلورين إ6. التجارب أثببت دوام ذلك الأثر الجانبي لمدة 20 يومًا يلتزم فيها الشخص بارتداء النظارة الشمسية قبل زوال التأثير بالكامل وقدرته على الرؤية مجددًا دون أي مشاكل. لهذا، يقول الفريق العلمي وراء تلك التجارب بأنهم لا زالوا بحاجة لمزيد من الوقت والاختبارات لتقليل تلك الأعراض الجانبية وتحسين سرعة وفعالية المركب النهائي؛ والرائع في الأمر أن تلك التجارب غير مكلفة لرخص المواد المستخدمة بها.
وفي النهاية، يتوجب علينا أن نأخذ تلك النتائج ببعض الشك الصحي إلى أن يتم اعتمادها عبر دوريات علمية لها ثقل كاف. وحتى ذلك الحين لن يعدو الأمر أكثر من مجرد أبحاث ضمن جهود لتلك المبادرة التي يقف فريق “العلم للجماهير” وراءها. يقول مدير المعمل الطبي بالفريق جيفري تيبيتس Jeffrey Tibbetts أن الهدف الأساسي من أبحاث الفريق هو دراسة الأمور التي لا تهتم المؤسسات البحثية والشركات الطبية الضخمة بتخصيص أي تمويل لها، وبقيامهم بهذا فإنه “هناك الكثير من القواعد العلمية التي يتم اتباعها وتطبيقها من جانبهم، فالعلم ليس لغة سحرية غامضة محصورة على النخبة فقط!”
تأملوا مقولته مرة أخرى: “العلم ليس لغة سحرية غامضة محصورة على النخبة فقط!”، وستجدونها صحيحة في عصرنا الحالي … صحيحة ومخيفة تمامًا! فلنأمل فقط ألا تنقلنا لكوابيس تجارب العلم غير المقيد وغير الأخلاقي.